ثمن المسؤولية .. هل هو المذلة؟‎









بقلم: يوسف عشي 



أذكر حينما كنت صغيرا أدرس في الصف الابتدائي، وفي يوم ما وفي حصة ما، درسنا مدرس قدير نصا لازال راسخا في ذهني إلى اليوم، كان النص يتحدث عن المسؤولية ويروي قصة رائعة عن التفاني في القيام بالواجب وتحمل المسؤولية مهما كان الثمن، وكان النص يحمل عنوان "ثمن المسؤولية" إلا أننى أجدني الآن شديد الحيرة حين التفكير في هذا الموضوع، حيث أن المتأمل في حال هذا البلد السعيد يستغرب للكم الهائل من المفارقات التي ربما كمية سطورها وعدد الأوراق اللازمة لتدونها قد تنوء بحملها العصبة من أولي القوة، و يا ليتها كانت مفاتيح كنوز كما هو الشأن بالنسبة لقارون، وكما يقال "شر البلية ما يضحك" تحولنا إلى شعب كثير الضحك بل إن البرامج التلفزية ومهرجانات الفكاهة والضحك لم تكن كافية لتضاف إليها أحداث اليومي في سخرية مريرة. فالقدر يستأسد في صفعنا كلما تجرأنا على التظاهر بالوعي..
كي لا أطيل ويتحول كلامي إلى مقدمة طللية في غير محل، إذ لا هو شعر مقفى ، ولا نثر مورد، ولا حكي وسرد يقدم الرد، وإنما كلامي اليوم يشير إلى مفارقة قد لا أتجرأ على حلها أو حتى مقاربتها بالشكل العلمي اللازم منهجا وموضوعا. إنها مفارقة كبرى نعيشها منذ أمد بعيد في هذا البلد. وتتحدد معالم هذه المفارقة في مفهوم قد يبدو بسيطا ، لكن السياسة جعلته أحد أعقد المفاهيم. إنه مفهوم "المسؤولية" حيث يمكن أن نتساءل - وربما ببلادة - هل هناك ثمن للمسؤولية؟ ومن الذي يدفعه؟
تجيبنا الحكومات المتعاقبة على اختلاف نوعياتها ومرجعياتها وحتى تسمياتها يمينية كانت أو ائتلافية أو يسارية أو تناوبية أو انتقالية أو إسلامية.. تجيبنا على نصف السؤال؟ ذلك المتعلق بالإمكانات المادية التي تحتاجها للقيام بواجبها الوطني السامي. ويدلل على ذلك حجم الرواتب التي يتقاضاها الوزراء وكبار الموظفين الساميين أو حتى السياميين بمعنى معكوس حيث يشكل نفس الشخص رئيسا لعدد من الهيئات أو الإدارات أو المكاتب الوطنية أو حتى المؤسسات الرياضية التي لا هم لها سوى الرفع من نسبة السكر ليس في المحلات التجارية، بل في دم المواطن المخربي عفوا، المغربي.
لكن النصف الثاني الأهم من الجواب ظل دائما معلقا. والويل كل الويل لمن يطلبه ، حيث أن للمسؤولية ثمنا باهضا يدفعه الشعب من خيرات البلاد وحلالها، ومن جيبه عبر اقتناء البضائع بضرائبها..  فنصف الجواب الأول لمن سمعه أما النصف الثاني فالعلة لمن طرحه، وهنا تكمن مفارقتنا التي نحاول طرحها: كيف نتحدث عن الثمن الذي يدفع كأجور وسيارات فارهة، ولوازم برتوكولات و و و.. ولا نتحدث عن الثمن الذي يدفع نتيجة عدم التزام المسؤولين بمسؤولياتهم. لم دائما الشعب هو الوحيد الذي يؤدي؟ فالمنطقي أن يلتزم المسؤول بواجبه بالقدر الذي يستفيد من راتبه وما جاوره، فكما تردد العامة " زيد الما زيد الدقيق" يردد أغلب المسؤولين " زيد الشحمة في ظهر المعلوف" والغريب أن ثمة جواب جامع مانع على هذا الإشكال يتجاسر المسؤولون الكبار في مختلف الحكومات المتعاقبة على هذا البلد السعيد على ترديده دائما شفويا، وكأنه لا وجود لصفحة يمكن تدوينه عليها وتقديمه في مسرحية البرلمان ليتحول حقيقية إلى إجراء على أرض الواقع. إنه جواب يقول " إننا نسعى دائما إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة"، كم هو جميل هذا القول لكن الأقبح منه إنه لا وجود له إلا في أحلام المواطن المغربي. ولعلي أسوق بعض الأمثلة :
 الكل اليوم يتحدث بإسهاب حول تداعيات العفو الملكي على ذلك المارق الإسباني وما أثار من جدل واحتجاجات وأسال من المداد، وما عقبه من توضيح للديوان الملكي من حيث الخطأ الذي وقعت فيه إدارة السجون ما تردد من إيقاف أو إقالة لمسؤول أو مسؤولين كبار.. لكن هل حقيقة، ذلك المهمل الذي تسبب في الخطأ كاف لتحمل المسؤولية عن ما ترتب عن الخطأ؟ وإلى متى سيستمر هذا الشعب في تلقي الضربات الواحدة تلو الأخرى؟ فالضرر وقع وبشكل فادح، كأنني هنا أمام أرملة يطلب منها أن تكون راضية بعد القصاص ممن قتل زوجها. هل أعاد هذا القصاص زوجها؟ والأنكي هل حذف عنها صفة الأرملة بما تحمل من هون سوسيولوجي ووضعية إجتماعية لعينة لأنها أصبحت "هجالة"؟. أحيل القارئ الكريم أيضا على ما يجري في الساحة الرياضية من إهدار بمنتهى السخاء والسخف للمال في بلد يشكل الفقر الوضعية الأساسية لمواطنيه، ولنمر إلى التعليم وما رصد للمخطط الاستعجالي من أموال، والنتائج المهينة التي أدى إليها، حتى أن مسؤولة كبرى عن التعليم تجرأت ونعتت المخطط ونتائجه بالأكثر من رائعة في الوقت الذي يرى الأعمى بوضوح ويسمع الأصم بصفاء عن بلادة الأغلبية من أبنائنا بسبب هذا النظام التعليمي الهجين .. ولنعرج على الصحة، والعدل، والأمن، و و و... حتى أصبحت لا تجد أي نقاش حول أي قطاع من القطاعات لا يخلو من شكوى ومن تذمر من سوء الوضع،  هل هذا هو ثمن المسؤولية؟ وإلى متى نجد دائما الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب؟
 ربما يجيبنا تاريخنا المشرق بشكل أكثر عقلا نية عن هذا السؤال حينما صاح أحمد بن حنبل - أثناء محنته الشهيرة في وجه سجانه بمعية أحد المحسوبين على العلماء حين طلبا منه الأخذ برخصة الاضطرار والقول بخلق القرآن مشيرا إلى الجموع الغفيرة المتواجدة خارج الزنزانة - " أأنجو بنفسي وأضل هؤلاء؟؟.." يجيبنا التاريخ أيضا حينما قرر عمر بن الخطاب - حين وصلته أنباء عن ثراء عمرو بن العاص الصحابي الجليل وحاكم مصر- أن يصادر بيت المال نصف مال هذا الصحابي وثروته، يجيبنا التاريخ حين رفض يوسف بن تاشفين الإقامة في قصر المعتمد بن عباد، لما رأى ما به من إسهاب في البهرجة والزخارف وسأل عن ما أنفق فيها من أموال، وأقام في خيمة وهو الأمير القوي صاحب الجيوش التي حافظت على الأندلس وأمدت  في عمر التواجد الإسلامي بالأندلس لقرنين آخرين.. يجيبنا التاريخ ويجيبنا لكنا لا نتلقى العبر..
 حينما كانت المسؤولية تربط حقيقة بالمحاسبة، وكان الرجل المناسب في المنصب المناسب. كنا الأفضل والأقوى والأحسن.. لكن تردى بنا الحال إلى أن أصبحنا مرتعا للسياحة الجنسية. والأنكى أن يغتصب أطفالنا بالأعداد ونقول للمجرم الغاصب أذهب فأنت الطليق.. دون أن ننتبه إلى قاعدة كونية تقول أن "الذي يعفو هو الطرف الأقوى وليس الأضعف" فمتى كنا في العصر الحديث أقوى من إسبانيا؟ التي لا زالت تذلنا كل يوم بغصبها لسبتة ومليلية وجزر الخالدات .. والتي لا ننسى أنه منذ أمد قريب هددنا الحلف الأطلسي عسكريا بسببها حينما ثارت النخوة في بعض جنودنا حينما رأوا العلم الإسباني يرفع فوق جزيرة ليلي المغربية، وأيضا لا ننسي أن العاهل الإسباني الذي زارنا مؤخرا قد زار قبل ذلك سبتة السليبة وأثار حفيظة مواطنينا المغاربة الأقحاح الواقعين تحت نير الاحتلال الإسباني إلى اليوم.
 ولربما نخشى أكثر ما نخشى أن لا يكتفي الإسبان اليوم بالاحتلال فقط، بل ربما يتأسون بمواطنهم ويحولوا الاحتلال إلى اغتصاب، ما دام القانون الكوني- بسبب غياب الحس بالمسؤولية، وغياب المحاسبة الحقيقية في بلادنا - حول العفو من القوي إلى الضعيف .


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس