الفلسفة والعقل



بقلم: مصطفى بدوح  


ما الفلسفة؟ سؤال تردد ما من مرة، ومازال يتردد إلى اليوم، إلى الآن، إلى الحاضر، إنه سؤال يلمح إلى فضول هو من خاصية العقل، سؤال سائله إنسان، وكأنه يسأل عن معنى إنسانيته ودواعي وجوده، سؤال بديهي لكنه قوي وعميق له أبعاد أنطولوجية وأكسيولوجية وإبستيمولوجية أكثر منها فضولية بالمعنى الشائع. الفلسفة فكر، عقل، تأمل، استجلاء في مكنون الذات والآخر والعالم، هاته الأقطاب تشكل علاقة ثلاثية تستمد منها الفلسفة مكانتها وترخي بأسئلتها على المتعاطين لها وحتى المتخلين عنها وغير المهتمين بمواضيعها، غير أن هذا الإنسان لا يذكر أنها تفكير شمولي، كلي، تأخذ المواضيع في شموليها، لا تحب النزول، لأن من طبيعتها التعالي ومخاطبة العقل لا العاطفة، إنها تفكير عقلاني يسر الناظرين، غير أن هذا الكلام وهذه الإحاطة البسيطة للفلسفة لا يفقهها إلا من كان شديد النظر ومهمّم بوجوده كفرد يبتغي معرفة غايته في هذا الوجود الرحب.
      كذلك الذي أراد أن يوجه تجربته الحياتية ما عليه إلا أن يصغي إلى الوجود الذي يناديه، حقا عليه أن لا يكتفي بسماع ما يقال وإنما أن يراه بعين العقل، العين التي تجعلنا نتصرف بصدق وبحكمة ونزاهة تبلغ بنا إلى درجة محبة الحكمة ومصادقتها، غير أن هذا لا يتحقق إلا بفعل فلسفة الإرادة والرغبة الناجمة عن قلق يدفع بصاحبه إلى محاكاة النصوص والكتابات الفلسفية بفكر رصين يبتغي المعقولية ويميل إلى النسقية المتواصلة والشاقة.
       كما أنه لا يمكن تعلم الفلسفة، إلا أنه يمكن تعلم التفلسف بتعبير "إيمانويل كانط"، فما يمدنا به تاريخ الفلسفة ما هو إلا طريقة التفكير الفلسفي وخصائصه، لذلك فالمشكلة تكمن في الذات التي تتعاطى مجال الفلسفة، من خلال نزوعها نحو السهل عوض أن تختبر مهاراتها وميكانيزماتها بتعاطيها قراءة النصوص والكتابات الفلسفية الراقية، ما جعل اعتقاد بعض من هؤلاء الذين يقع لهم هذا الأمر. تقع الفلسفة الإسلامية وغيرها من الفلسفات الأخرى فريسة لمعتقداتهم الخاطئة، نظرا للغة الرصينة المؤلفة بها كتبها، فهل نأخذ هذا الكلام كتبرير لنقول بشكل عام إن الفلسفةالفلسفة فراغ أو لا معنى لها، بالطبع هذا القول سيؤدي بنا إلى السقوط في متاهات والبقاء في جهل لن يغتفر، لأننا عوض أن نتشرب بأفكار دسمة وبلغة رصينة تحتوي مفاهيم ذات حمولة فلسفية وازنة، يتم إلقاء اللوم عليها، بذريعة أنه يصعب فهمها. إنه إشكال عويص يعاني منه القارئ والمقبل على المستوى الثانوي التأهيلي ليس إلا، نجده يشتكي أكثر مما يجتهد ويحاول، لأنه لا يبذل كل قواه العقلية للتعامل مع هذه المادة الرصينة والمصدر الأم لكل التحولات التي نلحظها اليوم في واقعنا، سواء منها التحولات السياسية والتكنولوجية والفكرية الثقافية والاجتماعية...إلخ.

 الفلسفة
     
 إن مادة الفلسفة تتخذ من العقل محاورها الأساس، قرينها، جوهرها، إرادتها، رغبتها، إنها عملية بنائية تحتمل  صعوبات ومغامرات فكرية تحاكي المفهوم وتسائل المكتوب، تمتد جذورها نحو المستقبل، نحو الآخر، الآخر باعتباره مستقبل المستقبل، فهي تفكير نقدي تمد صاحبها بآليات التفكير المنطقي والتساؤلي الاستشكالي والمفهومي، بذلك تكون الفلسفة سلم له درجات، بين الدرجة والأخرى مسافة لا يمكن اجتيازها إلا ببذل جهد وصبر وأناة، وفي العناء رضاء على النفس واستعداد بالقوة إلى الفعل، وما الفلسفة في هذه الحالة إن لم تكن كتابة تحرك الآليات الذهنية في تعلم التفكير لدى المتعلم، وبذله إرادته ورغبته في الرضاء على الكتابة الفلسفية ومحاولة الفهم، وفتح أقواس التأويل العقلي المسؤول.
         فكلما حصل العناء للقارئ في مواجهة النص المكتوب فلسفيا، كلما حصلت له متعة القراءة والمؤانسة ومساءلة ما يخفيه المكتوب، وفي هذا الصدد يحضرني نيتشه حينما يقول" التفاؤل علامة سذاجة والتشاؤم علامة انحطاط والطريق الصحيح بينهما ولادة الأشياء من رحم المعاناة"، إذ الإبداع والمتعة في القراءة أو في الكتابة لن يحصل بالسهل الممتنع، وإنما هو نتاج وولادة لمعاناة مؤلمة عبر حلقات القراءة الجادة.
         إن الكتابة لم يكن تدوينها من أجل الفهم وإنما الأمر عكس ذلك، فأنا أكتب لكي لا أفهم بتعبير نيتشه، فعلى من أراد أن يفهم ما هو مكتوب فلسفيا لا يسعه إلا بذل إرادته ورغبته الجامحة في الغوص الفلسفي، فما الفهم الفلسفي إلا رغبة وإرادة، إنه فهم يشترط إرادة قوة إن صح التعبير، إرادة قراءة، إرادة فهم، إرادة اهتمام وتضحية فكرية. فالفهم الصحيح والمستقيم والمقبول للقراءة الفلسفية لا يتأتى إلا بعد أشواط من تعقل النصوص والمواضيع الفلسفية، إنها حرفة وخبرة عقلية منفتحة. فما يسع المقبل على الفلسفة إلا أن يتواضع لها وينزل من برجه العاجي  بتحديه لنفسه والسماح لها بأن تختلجه  بصبر منه وأناة، إنه تنازل ذاتي من أجل ما هو موضوعي صارم وصادق حكيم، تنازل غايته في الأخير هو العودة إلى الذات ولو مرة واحدة في العمر ليتحقق التفلسف بتعبير "إدموند هوسرل".
         إن ما أشرنا إليه هو أن الفلسفة تفكير عقلي، تخاطب العقل، وترسخ فيه كل الطرق النقدية الخالصة والعملية، كما أن لها بعدا أكسيولوجيا تربويا، فما على المقبل عليها إلا أن يرغب في تسلق جدعها دون أن يحدث حركة في أي فرع منها ليقطف ثمارها الطازجة، وأن يتعلم طرح السؤال قبل إطلاق الحكم السابق على عواهنه، فالسؤال يرسم لنا الطريق إلى الهدف، حيث إن سؤال ما الفلسفة؟ دالّ على ميول صاحبه إلى معرفتها والتعاطي لها على حد تعبير "مارتن هيدغر". إذ الغاية تبقى هي الفلسفة عبر بحث مستمر ودائم في حلة تساؤلات لا تفتأ تنتهي.
         نختم موضوعنا بتعريف للأنوار كما أورده كانط يقول: ( إن الأنوار هو الخروج من الحجر والقصور، إلى حالة النضج والرشد)، فإذا كان الأنوار هو التخلص من الظلام والإقبال على النور من خلال استخدام العقل. فهل أبقى في كنف الحجر والقصور بدون استعمال علني لعقلي، وأملأ نفسي بالأمل الموهوم بحلم مني في قراءة وفهم الفلسفة  فهما صحيحا !بالقطع المطلق "لا"، لأن الفلسفة هي الأنوار، هي العقل، وهي الإشعاع، فما على المقبلين عليها إلا أن يخرجوا من كهوفهم ويتخلصون من أوهامهم وقصورهم الإدراكي ويتشجعون ليبصروا حقيقة الأشباح المظلة والنور الحقيقي بعين العقل، تلك هي الحقيقة والاستعمال العلني للعقل الفلسفي الشجاع، لا كما هو عليه الحال المظلم في الكهف والمتشبث بدوغمائيته المتحجرة والمتوهمة في حلم اليقظة.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس