يوميات " مكلف بالحراسة" في امتحانات البكالوريا {6}

6 – "المجرم" الصغير
بقلم: محمد بعدي

تعمدت التأخر لأن هكذا سلوكات تسبب لي مغصا قيميا... فمن الصعب رؤية سلوك معوج دون امتلاك شجاعة أو جرأة تقويمه... و هل كان ينبغي أن أوبخ زميلتي و أطردها من القسم كي أكون شجاعا و جريئا؟
عندما اقتربت من القسم كان مدير المركز قد سبقني.. فهمت أنه بعد خروجي عمت الفوضى، وجدته يرغد و يزبد و يتوعد "الغشاشين"... زميلتي كانت مطرقة خجلى خصوصا و أنها قد أصابتها بعض الشظايا من كلام رئيس المركز، و إن بشكل محتشم، فقد قال لها: إذا لم تستطيعي الحراسة لوحدك فقد كان حري بك أن تخبرينا ريثما يعود الأستاذ... في الحقيقة أراحتني هذه الكلمات.. أحسست بنوع من الانتصار.. المهم فقد مرت المدة المتبقية بسلام.
عدت في المساء و كان النصيب "حراسة" تلاميذ الشعبة الأدبية، و ما أدراك ما الشعبة الأدبية؟... و في مادة الانجليزية... و ما أدراك ما الانجليزية بالنسبة لتلاميذ الشعبة الأدبية؟ كانت الحراسة ذكورية خالصة حيث رافقني زميل من الذين يعرفون بجديتهم... و عندما كنت متوجها صوب قاعة الامتحان أحمل أوراق التحرير و أوراق التسويد كنت استطلع نظرات التلاميذ: بعضهم تقرأ في وجهه الخوف منك، و البعض تدرك بسهولة أنه يتوسل إلى الله من أعماقه بأن لا يتوقف قطارك في "قاعته"، بل تستطيع أحيانا أن تلتقط تعابير و سط الزحام: " صبحنا على الله عاود تاني"، " الله يبعد بلانا من بلاه "، " وا مصيبة هادي"... و أحيانا تعابير أخرى: " ياربي إيجي عندنا" ، " واوو هداك الاستاذ الله يعمرها دار"... ولجت القاعة بدت لي علامات عدم الرضى على بعض الوجوه، وزعت الأوراق و طلبت وضع الوثائق قرب السبورة... في تلك الأثناء دخل زميلي يحمل مظروف الامتحان.. تناهى إلى مسمعي قول أحدهم همسا: "صافي كملات... غير حطو لوراق و نوضو.." أغلب التلاميذ كانوا ينظرون إلى أوراق الامتحان و لا يقرؤون، ثم ينظرون إلينا، ثم يتبادلون النظرات فيما بينهم... أولئك هم الكسالى و الغشاشين.. تعرفهم بسيماهم.. معرفتهم ليست مستحيلة.. تخبرك ملامحهم عن بواطنهم... تلميذ و تلميذة كانا الوحيدين اللذين بدا أنهما ينتميان إلى عالم مختلف، كانا مركزين، منسجمين و متفاعلين مع الامتحان... هؤلاء تتمنى أن تحظى بشرف حراستهم... أحد التلاميذ و كان قصير القامة، و يبدو من طريقة تصرفه أنه سقط  للتو من "قراب الشيطان"، كان  لا يستطيع الاعتدال في جلسته و لو دقيقة واحدة و كأن مسمارا تحت إليته... يتوسل هذا و يستعطف ذاك بحركات تنم عن بلادة خلقية. في لحظة ما سحب ورقة من جيبه و بشكل علني مفضوح بدأ الكتابة... حاول زميلي تنبيهه و سحب أداة الغش من بين يديه، غير أنه رفض و قال بأن قاعات أخرى " حراسها متساهلون" بل إنهم يساعدون التلاميذ، و قال أن القانون ينبغي أن يطبق على الجميع.. و بأن هذه سنته الأخيرة و إذا لم ينجح سوف يفصل... غير أننا لم نشأ مسايرته... ثم غير خطته و بدأ يهدد و يتوعد... " أنا رامنعقلش على بنادم ... نمشي على بنادم للحبس ..."، فقال له زميلي: إذا أردت الاستمرار في الغش فاعلم أن الصفر ينتظرك من خلال تقرير سأكتبه الآن.. و توجه نحو المكتب.. في تلك الأثناء نهض التلميذ منفعلا و رمى الأوراق و اختفى عن الأنظار.
مرت حوالي سبع دقائق كان زميلي يقف مسندا ظهره إلى الباب، عندما صاحت تلميذة تجلس في الصف الأول بصوت قوي اهتزت له قاعة الامتحان : "أستااااااااااااااااااااااااااااااااذ " تحرك الأستاذ بسرعة تجاهها، و في جزء من الثانية سمع دوي كأنه انفجار... كان صوت حجر ارتطم بقوة بالجزء العلوي للباب... كان التلميذ "المجرم" في نظرنا يريد الانتقام من الأستاذ "المجرم" في نظره... خرجت مهرولا، بينما كان "المجرم الصغير" يحاول الفرار.. لسوء حظه ألقي عليه القبض، و تم إشعار الشرطة التي حضرت، على غير عادتها، بسرعة قياسية، تم وضع الأصفاد في يديه و أخذ للتحقيق...
عندما انتهينا من مهمتنا و جدنا الشرطة في انتظارنا لأخذ أقوالنا، و أمام باب المؤسسة وجدنا قبيلة بكاملها في الانتظار: أب التلميذ و أمه و أعمامه و خالاته و الجيران... الكل "يرمي العار"، و يعتبرون أنفسهم "يهودا أسلموا بين أيدينا"، و يطلبون منا أن نفكر في "مستقبله" أي مستقبل "المجرم" لأنه لا زال صغيرا لا يقدر عواقب فعلته... و عدهم زميلي خيرا باعتباره المدعي و بعد تدخلات و مناشدات... قبل الصلح. أما التلميذ "المجرم" فقد وجدناه شخصا آخر كان لا يتوقف عن البكاء بصوت "يقطع القلب"، تارة يرتمي على قدمي زميلي و أخرى على قدمي محاولا تقبيلهما طالبا للصفح...



مقالات ذات صلة:


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس