الصحفي والسياسي..



الصحفي  و السياسي   ..


 بقلم : يوسف عشي

ماذا يريد الصحفي؟ هذا الذي لا يترك أمرا، ولا نقاشا، ولا تدبيرا من تدابير السياسيين إلا وحشر فيه أنفه؟ ما الذي يبرر الفضول، واقتحام شؤون الغير دون دعوة للحضور؟ ما الذي يحدو بشخص ما مهما كان شأنه فكريا أو دينيا، أو حتى شعبويا لينصب نفسه  خصما وحكما، ويدعى امتلاك رابع سلطة؟ لأنه صحفي؟ كيف لشخص أن يعرض موقفا ربما هو نفسه غير مقتنع به أو رافضا له حتى؟ ما الذي يبرر استدعاء الفكر في معالجة الواقع، ألم تمت الفلسفة في الخطاب الفلسفي المعاصر نفسه؟ لمَ يصر هؤلاء الفضوليين على التعالي فوق الجمع، وتحويل كل ما عداهم إلى مواضيع للتحليل، وربما للسخرية والتهكم  بدعوى الصالح العام؟
أليس ما يلجأ إليه الصحفي من وسائل ملتوية لضمان مصادر دقيقة للخبر تجعله يصنف ضمن من يتلصصون ويتجسسون على المسؤولين المحترمين؟ أليس للمسؤول حرمة؟ حتى يصبح محل أخذ ورد بين من يدعون تقديم الحقيقة؟ أليس من سلطة تردع هؤلاء المتفدلكين والمتشدقين بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وربما حتى الحيوان؟
هذه أسئلة في وسع أي سياسي أن يطرحها، ويطرح نفسه معها، أليس هو من يسوس أمور البلاد والعباد؟ أليس هو من يتحمل المسؤولية، ويسهر على ضمان الحقوق والحرية؟ أليس السياسي هو من يضع الخطط ويفكر نيابة عن الشعب؟ أليس هو من يخوض الحروب الانتخابية، ولا يتولى منصبا إلا بعد لؤي وحرب نفسية؟ ألا يحق لمن يتولى المسؤولية أن يترك له المجال؟ حتى يتسنى له العمل وتنفيذ كل ما وعد وقال؟ لم تحشر الأنوف، كل الأنوف في عمله، ولا يجازى إلا عن سيئه؟ لم لا تعدد خصال السياسي من تخطيط ومثابرة ، وصبر ومناورة ثم تحقيق للهدف من أوله إلى آخره؟ ألا يدرك كل متفلسف في الشأن العام أن من يضع يده في "العصيدة" ليس كمن يراقب من الخارج؟ ألا يعرف الجميع أن "دخول الحمام ليس كالخروج منه". أم أن الأمر يتوقف على النقد أو الانتقاد؟.. سهل أن نتكلم ونعرب عن الأسف، ما دمنا بعيدين عن دقائق الأمور ولا نعلم منها إلا ما يروج دون قدرة حقيقية على معرفة ما يدور؟ أليس ثمة غايات يجب الوصول إليها؟ كيف ذلك والحديث والتحليلات تعترض أي خطوة وتثقل كاهل السياسي المجد والباحث عن الحلول؟
وهذه أسئلة تحمل طابع الأجوبة. ربما تبرر واقعا وتمنح نقطا لمن هو في البؤرة، ويدعى مضايقة ومناوشة الحائمين حول الحقيقة لا السابرين لغورها.. لذلك نقول:
متى كان فعل المراقبة يحتاج إلى تبرير؟ وتاريخ البشرية كله ليس سوى عملية مراقبة محايثة وموازية لصيرورات وسيرورات الحياة الإنسانية؟ ومتى كان تحليل الأمور فضولا وانحشارا في أمور البلاد والعباد؟ أليس الصحفي من العباد؟ أليس هو من أسندت إليه مهمة إخبار العباد ومتابعة شؤون البلاد؟ من الذي يضايقه العمل أمام الناس دون تعتيم؟ من الذي تؤذيه الشفافية؟ ألا يعلم الناس ويجمعون على الحكمة القائلة " فوق طاقتك لا تلام"؟ أليست الشفافية حماية للمسؤول من الظنون؟ لأنه يعمل بشعار "أنا أنجز وأنتم تنظرون" أليس التحليل مطلبا علميا وعمليا ضرويا؟ ألا يفيد تعدد التحاليل في تجلي الصورة ووضوحها واستتباب التكامل في الرؤى؟ ألا تجدي وفرة الرؤى في تيسير سبل الحل عوض الطريق الواحد الذي إذا ضل سقط؟
لكن عفوا.. إلى متى سنظل نصدع رؤوس القراء بمثل هذه الأسئلة، علما أنها كلها ذات طابع استنكاري وتحمل أجوبتها في ذاتها؟ يبدو أنه لا مفر من توضيح الواضحات.. ولذلك نقول:
السياسي لا يدين إلا بتحقيق الأهداف.. وطبيعة الأهداف إما أن تكون ذاتية أو موضوعية.. فكيف بنا أن نستبين طريق السياسي؟ من الذي يتحلى بالقدرة على ضبط السياسي؟ نجيب فنقول الذي لديه القدرة على ضبط السياسي هو المثقف، لهذا نزعم في هده المساهمة أن على المثقف أن يلعب دوران،أو لنقل تحمل مسؤوليتان: تتمثل الأولى في تحليل الأمور واستجلاء الحقائف بالإعتماد على منهج علمي دقيق وعدة مفاهيمية رصينة ومعرفة دقيقية بمجال التدخل أي بموضوع التحليل ومنطق سليم يؤدي إلى استنتاج النتائج بناءا على هذا الكل المترابط. وتتحدد المسؤولية الثانية في عدم الاستئثار بخلاصات التحليلات ونتائجها، بل مشاركتها وتنوير الجميع على ضوئها.. وهنا تكمن نقطة الالتقاء بين المثقف والصحفي، فالصحفي إذا لم يكن مثقفا فإنه ملزم باتباع طريق المثقف، ونقل نتائج تحليلاته للمواطنين مجليا بذلك الحقائق وضاغطا بها على السياسي. ولهذا تنعث الصحافة بالسلطة الرابعة. إذ أنها تتحول إلى رقيب لا يعرف الهوادة، وحكم لا يعرف الانزياح ولا التواطؤ ولا المواربة. فحتى لو كانت نتائج التحليلات تصب في غير ما يريد الصحفي، فهو ملزم طبقا لميثاق المهنة باستحضار كل التحليلات والمواقف ومواجهة الرأي بالرأي الآخر. إنه مثقف أو شبه مثقف ضيف ثقيل على السياسيين، لأن السياسي-وهذا شيء مبدئي- لا يهمه أن يفهم الجميع ما يريد، ولا أن يستفيد الجميع مما يريد، بل يهمه أن ينجح في إنجاز ما يريد.
لكن ما العمل إذا كان ما يريده السياسي يمس مصلحة المواطنين؟ يضيق من مساحة حرياتهم؟ ويضرب في العمق مبادئ ديمقراطيتهم؟ ألا يصبح الصحفي الحق ( وليس الذي يؤجر أو يبيع قلمه مثلما تفعل المومس بعرضها) عدوا خطيرا وجب تحييده؟ وما العمل إذا برهن صحافي ما عن مهنيته العالية، وتمرس في مواجهة الهادمين لصروح الحرية والكرامة والديمقراطية، ونصب نفسه بكل جسارة عدوا لكل الفاسدين؟ الجواب هنا أيضا يحتمل حالتين : في الحالة الأولى حين يكون الوطن ميدانا للحريات والحقوق والكرامة الإنسانية، سيرتقي هذا الصحفي مراتب المجد، ويساهم بقوة في تقدم البلد وفي وجوده تمكين لصمام الأمان لمختلف فئات الشعب. أما الحالة الثانية حين يكون الوطن دولة نامية تحاول شق طريقها للانعتاق من وعتاء الظلم واللامساواة، وبناء دولة الحق والقانون التي تمثل الحريات جوهر اهتمامها، لكنها لا تزال تعاني من دكتاتورية الفاسدين، وتحصن المذاهنين بثغرات القوانين والهفوات الإنسانية. ففي هذه الحالة يكون الجواب هو إعتقال هذا الصحفي، وتقليم أظافر عقيدته الديمقراطية. بالبحث عن بعض زلاته القانونية أو هفواته الأخلاقية، وربما حتى مغالاته في الروح المهنية.
هكذا أيها القارئ الكريم نفهم اعتقال الصحفي الكفء علي انوزلا ولا نتفهمه. رغم أننا نختلف معه في كثير من التحليلات والمواقف التي أبدى، لكننا نقول: لا لتكميم الأفواه وكسر الأقلام، نعم لصراع الأفكار،لأننا نؤمن بالفكر..

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس